
كتب- ضياء الدين بلال- أصدقكم القول، طوال مسيرتي في العمل الصحفي، التقيت وجالست عشرات السياسيين والعسكريين والناشطين. وجدت بينهم من يتمتع بذكاء لافت وصلابة معنوية ونفسية نادرة.
ومن أبرز هؤلاء، الفريق طيار الفاتح عروة؛ رجل يتميز بذكاء متقد وثقة عالية بالنفس والتجربة، دون أن يبلغ حد الغرور.
في كلمات معدودة وتعبيرات ترتسم على وجهه، يستطيع أن يقول الكثير. يواجه أخطر الاتهامات ببرود أعصاب ورحابة صدر، وتأتي ردوده غالبًا حاسمة وقوية، ممزوجة بسخرية محببة، تخفف من وطأتها ضحكة ذات بحة مميزة.
التقيته أول مرة في بداياتي الصحفية، قبل أكثر من عشرين عامًا، في مكتب أستاذنا الفاضل محجوب عروة بصحيفة (الرأي العام) العزيزة. يومها، أشاد بأعمالي وتوقع لي مستقبلاً واعدًا في المهنة.
ومنذ ذلك الحين، تعددت بيننا اللقاءات والاتصالات، سواء العارضة أو القاصدة.
وفي عام 2010، وأثناء تأديتي للعمرة، تلقيت منه اتصالًا هاتفيًا في وضح النهار، استهله بضحكته المعهودة، ليبلغني باختياري من قِبل مجلس إدارة دار “السوداني” للطباعة والنشر رئيسًا لتحرير الصحيفة.
ارتبكت قليلًا؛ فقد كانت التجربة تمثل تحديًا حقيقيًا، في ظرف كانت تمر فيه المؤسسة بأزمات متراكمة.
مرت مياه كثيرة تحت الجسر وفوقه. وقبل أكثر من عام، كان لي شرف أن أكون ضمن مجموعة نيرة اختارها الراحل لإجراء تسجيلات توثيقية لمسيرته في العملين العسكري والمدني.
وقبل عدة أشهر، زارنا في الدوحة، وجمعتنا به جلسات ثرية، حفلت بالتحليلات الدقيقة والمعلومات العميقة.
لاحظت حينها الجسارة النادرة والشجاعة الاستثنائية التي واجه بها المرض العضال؛ لم يُثنه عن السفر أو الحركة، ولم يُلزمه البيت ولا السرير الأبيض، بل ظل متنقلاً بين المطارات، يؤدي واجباته الاجتماعية ويواصل مهامه العملية دون كلل.
رحم الله الفريق الفاتح عروة، رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته. فقد كان قامة سامقة، وإنسانًا مميزًا، ومهنيًا قلّ نظيره.