
قصتي مع وثيقة الجواز السوداني كانت مثيرة ومضحكة، ولوقتٍ طويل كانت مصدر تندّر بين أصدقائي وأفراد أسرتي.. كنت حريصًا على ألا يعلم بها بعض أصحاب الألسنة الطويلة، المبالغين في المزاح، ولكن بعدما انتشرت القصة بينهم، وبدأوا يضيفون إليها من توابل سخريتهم الكثير، قررت أن أشاركك بها، عزيزي القارئ.. فلن تكون أقسى منهم على كل حال!
في زيارة سابقة للدوحة، قبل أكثر من عشر سنوات، كنت ضيفًا على مجموعة من الأصدقاء الإعلاميين.. وكما هو معروف عن السودانيين في الخارج، فهم أهل كرم وشهامة، إلى درجة قد تضر أحيانًا بصحتك ووقتك… بل وحتى بجواز سفرك!
في اليوم الثاني من الزيارة، فقدت جواز سفري.. بحثت عنه في كل مكان محتمل، دون جدوى.. بدأ القلق يتسلل إليّ، وراودني هاجس أنه قد سُرق.. تذكرت وقتها قصص الجوازات المزورة والمسروقة، وكيف تُستغل من قبل شبكات الجريمة العالمية والتنظيمات الإرهابية.
سارع الأصدقاء في الدوحة بمساعدتي لفتح بلاغ رسمي.. ولكن، حتى اللحظات الأخيرة قبل موعد السفر، لم أتمكن من العثور على الجواز.
لم يكن أمامي سوى اللجوء إلى السفارة، حيث استخرجت وثيقة سفر اضطرارية، بمساعدة الإخوة الكرام هناك.. وعندما نظرت إلى تلك الورقة، قلت للأصدقاء، مازحًا وبنبرة قلقة: “أشك أن تكون هذه الوثيقة، في زمن اختطاف الطائرات وفوبيا المطارات، كافية للسماح لشخص بحجمي وطولي بالصعود على متن طائرة، في أهم وأكبر المطارات في العالم !”.
وفي يوم السفر.. رافقني الأصدقاء إلى المطار.. وبعد الوداع وتحميل الأمتعة، تأكدت من صحة شكوكي!
فما إن قدمت الوثيقة، حتى تغيّرت لهجة وتعامل رجال الجوازات.. تم إبعادي فورًا عن بوابة الدخول.. وبعد سلسلة من المكالمات والتدخلات، قيل لي إن هناك إجراءات تكميلية يجب إضافتها إلى الوثيقة ولكن لا يمكن إتمام ذلك إلا في اليوم التالي.
في صباح اليوم التالي، أنهيت الإجراءات المطلوبة، وتوجهت إلى صالات مطار الدوحة الدولي.. كنت أمشي بخطى ثقيلة، وقلب ينبض بتسارع… كل لحظة كنت أتوقع فيها صوتًا يناديني للعودة.. لتسجيل اعتراض، أو إبداء ملاحظة… “الغريق قدام” .
لكن.. حدثت المعجزة صعدت إلى الطائرة في النهاية، وكنت في قمة السعادة.. وما زاد بهجتي، أنني وجدت على متن الطائرة الدكتورة ناهد، ابنة أستاذي ومدير مدرستي بالمناقل الثانوية، الأستاذ محمد الحسن فضل، أحد أعلام بخت الرضا.. وكانت ناهد -الطبيبة المثيرة للجدل- زميلة لشقيقي الدكتور معتز، في كلية الطب بجامعة الجزيرة.
بدأنا حديثًا ممتعًا عن الأدب والشعر، وناقشنا أعمال باولو كويلو.. وفي خضم الدردشة، رويت لها قصة ضياع الجواز، وأريتها الوثيقة.
ناهد، بطريقتها السودانية المحببة، بدأت تسرد لي قصصًا مشابهة.. وبينما نحن نتحدث، اختلطت وثيقتي الاضطرارية مع أوراقها، وعند هبوط الطائرة، جمعت كل الأوراق ووضعتها في حقيبتها.. ثم افترقنا عند السلم، دون أن ننتبه لما حدث.
وعندما وقفت أمام ضابط الجوازات، بدأت أبحث في حقيبتي عن الوثيقة… دون جدوى! لا أثر لها! حاولت شرح الموقف.. أنني فقدت الجواز أولًا، ثم فقدت ورقة الفقدان نفسها…!
كان من الصعب على المسؤولين تصديق ما أقول… “كيف صعدت للطائرة دون أوراق ثبوتية؟!”… بدأت على الفور عمليات بحث شاملة داخل الطائرة، وفي أرضية المطار، وحتى داخل الصالة.. ولكن دون فائدة.
لحسن الحظ، تعرف عليّ عدد من الضباط، وامتزجت ضحكاتهم المتعاطفة بابتسامات ساخرة، غلفتها كلمات احترام وتقدير.. تمت معالجة الوضع، وغادرت المطار.
وأثناء عودتي إلى المنزل، تلقيت اتصالًا من الدكتورة ناهد.. أخبرتني أن زوجها وهي، لم يريا لي أثرًا عند الخروج من المطار.. أخبرتها بالقصة، فسكتت لحظة، ثم ضحكت وقالت إنها وجدت الورقة في حقيبتها!.. كانت بلا جدوى وقتها.. وضحكنا كثيرًا، ثم أنهينا المكالمة.
وبعد شهر تقريبًا من تلك الحادثة، اتصل بي صديقي العزيز، كفيلي في الدوحة، الإعلامي الشهير فوزي بشرى.. قال لي ضاحكًا، بنبرة ممتزجة بالحرج:
(زوجتي لقت جوازك في دولاب الغرفة! الظاهر، وأنا بكمل ليك إجراءات السكن في شقق قناة الجزيرة، كنت شلت الجواز في جيبي بالغلط، ولما رجعت البيت، مرتي وضعته فوق الدولاب، ونسينا الموضوع تمامًا)…!
*من الأرشيف.