كانت مَاري مِيشيل لويس وزكريا إسماعيل موسى؛ كائنين غريبين وبقدر ما هما شديدي الاختلاف أزمنةً وجُغرافيا وفي النّظرة لبعض جوانب الحياة؛ إلا أنهما كانا شديدي التّجانس كيميائياً ويتنقلان في أحاديثهما كفراشات البراري المُتحرّرة من كل قيدٍ .
مُنذ لقائهما الأول؛ ومنذ البداية اْشتبكا في حوارٍ عميق واْشتبكت روحيهما في حوار أعمق لم ينقطع وخلّف آثاره عند كل أمسية ونهار من لقاء.
كان زكريا على موعد لإجراء حوار إذاعي لبضعة دقائق، حدّثته عبر هاتفها الجوال على نحوٍ مهني خالص في أول زيارة له لباريس في تسعينيات القرن الماضي، أحكما المواعيد وهو في طريقه لمقابلته الإذاعية لم يفكر كثيراً؛ فهي واحدة من مئات الّلقاءات التي أجراها من قبل، والقضايا صافية في ذهنه ولا تحتاج إلى تحضير والفارق الوحيد كان؛ أن دلف إلى المبنى الفخم للإذاعة والتلفزيون في قلب باريس للمرة الأولى؛ واستقبلته عند صالة الاستقبال، وكان من عاداته أن يتأخر قليلاً، ولكن هذه المرة وصل في مواعيده كقطار سويسري.
تبادلا التّحية، كانت مختلفة وتشّع من عينيها طاقة الحياة ،مدت يدها قائلة: ماري ميشيل؛ ورد: زكريا موسى.
التقت عينيهما للحظة قصيرة، عبرا نحو الأستوديو بعد أن توقف المصعد وهي تحاوره بمهنية عالية، تأملها للحظة وانتهى الحوار الإذاعي في بضع دقائق، ثم دعته لتناول القهوة في مكتبها، إذ كان لديه بعض الوقت ورحب عن طيب خاطر وقد أثارت فضوله وهي تحاوره بظل خفيف؛ وحينما اصطحبته إلى مكتبها الذي كان يضجّ بطاولات متعددة وآخرين يتسابقون في نقل قصاصات الأخبار من طاولة لأخرى ويتهامسون وهم يعالجون الأخبار العاجلة، جلست إلى طاولة مكتبها بعد أن وضعت كرسياً إضافيا أمامها ودعته للجلوس، ابتدرت الحديث عن آثار الحروب في إفريقيا وتنقلا بين عدة قضايا وكانت أعينهما تشع بإشعاعات مضيئة تشئُ بأن هنالك أشعة فوق بنفسجية من المحبة قد اخذت تتسرب إليهما.
قدّمت له فنجان من القهوة ارتشفه على مهلٍ؛ وهما يتحدّثان بشيء من المناجاة التي بالكاد تأخذ طريقها وهو ينظر اليها نظرات متقطعة كانت كافية لبداية حوار لن ينتهي الى ان تغيبه الحياة .
كان بعض زملاؤها ينبهونها لموعد نشرة الأخبار القادمة وبان هنالك حواراً مع احدهم سيأخذ طريقه اليها في اثناء قراءتها لنشرة الاخبار، حينما انتهى من قهوته قررت اصطحابه الى صالة الاستقبال حيث التقته للمرة الأولى، واستقلا المصعد الذي اخذ ينهب طوابق البناية وهو في طريقه الى الاسفل من غير انتظار وبدا ان كلاهما كان راغب في مواصلة حوار يأخُذُ وقتاً طويلاً كصلاة جنازة لأحد النبلاء الكبار، والقساوسة يتحدثون عن محاسنه العظيمة؛ وبعض المساوئ التي حولوها بقدرة قادر إلى محاسن، وجوقة التراتيل تقطع أحاديث القساوسة مواصلةً انشادها، كان القساوسة لا يتوانون عن الحديث عنه كانسان طاهر بلا خطيئة لاسيما حينما يتذكرون عطايا النبيل التي لا تملأ جيوبهم، والولائم التي يسيل لها اللعاب وبقدر ما يفكرون في عطاياه يتمنون ان يجزل ابنه الجالس في الصفوف الأولى عطاياه ويجزلون الحديث عن الميت وهم يحفظون بعضه عن ظهر قلب مع اضافات جديدة لائقة بالمناسبة، وقطع حوارهما وحبل تفكيرهما اشارة من المصعد انه قد وصل باب الاستقبال ودّعته ومضى الى حال سبيله والى مواعيده الأخرى وقد وجد التاكسي الذي بعثت به محطة الاخبار ليقله في انتظاره.
وُلدَ زكريا موسى في مدينةٍ ساحليّة، نما وترعرع بها حتى بلغ الرابعة عشر من عمره، لا زالت ذاكرته حية ونديّة تحملُ في طيّاتها طفولتهِ السعيدة، وحياته هناك حتى شارف سنوات النُضج، يتذكّرُ النوارس التي تُجمِّلُ الساحل بحضورها، ولكنها تغيب، وصديقُ النوارس يحملُ بعض الأسى حينما ترتحل إلى حيثما جاءت من شواطئٍ أخرى بعيدة، ويتذكر عُمّال الشحن والتفريغ والحمّالين البائسين الفقراء عند أبواب الميناء وقد أخذت الآلات تحلُّ مكانهم وتزيدُ من عذاباتهم وتقذفُ بهم إلى الشوارع، وهم بملابسهم المتسخة الرثّة وكأنهم من مدينةٍ قد ضربتها حرب، ومع ذلك فإن كبريائهم الذي يتجاوز شموخ الجبال المحيطة بالمدينة يظلُّ ملازماً لهم، وهم يستقبلون البواخر بالفرح وهي تقتات من سواعدهم مقابل لُقيمات وقهوةٍ مُرّة وشرابٌ ردئ ينتهي بقتالٍ وخلافاتٍ تنشُبُ بينهم من حينٍ لآخر. لقد كانت البواخر والقطارات تنقل خيرات وموارد البلاد جيئةً وذهاباً، ومع ذلك فإن أطفال المدينة وشيوخها يتسولون عند أبواب السفن ومحطات القطار.
يتذكرُّ الهنود واليونانيون والأرمن وأحيائهم المميزة ومنازلهم المختلفة، مثل ثقافاتهم وهم يختلطون مع سكان المدينة في التجارة طوال النهار، ويعتزلونهم في الحياةِ الاجتماعية عند المساء على أضيق نطاق، لهم أنديتهم الخاصة وأماكن سمرهم ولهوهم، لم يجد حينها زكريا تفسيراً لذلك، فقد عاش في حيٍّ متوسط في المسافة الفاصلة بين فقراء وأغنياء المدينة، وتذكر صرامة والدِه الذي يدفعه دفعاً نحو التعليم والتحصيل وحُزنِهِ على أصدقائهِ وهو يستقلّ القطار مع والده ووالدتهِ وأخوتِهِ ويغادروا المدينةَ إلى الأبد، لقد أحبّ المدينة وأحبّ البحر وملابس فقرائها وسكانها الأصليين ولغاتهم المحليّة التي تعلّم بعضها، هو الذي قرأ كثيراً عن تاريخهم بعد ذلك وأن لغتهم أقدم من اللغة الفرنسية والانجليزية، وأنهم قد ركبوا البحر قبل الأوروبيين إلى بلاد بونت، وتبادلوا التوابل والحرير والمِسكْ وعيدان الصندل وريشِ النعام وسنُّ الفيل، وتذكّر كيف شعر بالضياع حينما انتقل إلى العاصمة مع والده وأخذ في التعرُّف على جدرانها وحيطانها التي بدت له أكثر تعقيداً ومضيعةٌ للوقت، وابتسم وهو يرى نفسه في قلبِ باريس متذكراً عاصمة بلاده، والحنين الذي يأخذ بتلابيبه من حينٍ لآخر، وقد داومَ على الأسفار والترحال.
وهو غارقٌ في تفكيرهِ، مرّ بالقرب من مرآةٍ كبيرة في إحدى الفترينات التي تبيعُ ساعاتٍ غالية الثمن ونظر إلى هُندامه، وقد كان على عادتهِ أنيقاً، وكان اختيارهِ لبدلته وربطة العُنق بعناية، رغم ثمنهما الزهيد، ولكن أناقتهما لا تَخفى.
كان طقس باريس متقلب وبارد وقارص يتسرب الى داخل ملابسه الشتوية متزامناً مع تسرب دفء اللقاء والحوار والقهوة عند طاولة ماري ميشيل لويس وهو يتأمل بطاقتها الانيقة في يده.
بعد بضع دقائق استغرقتها نشرة الأخبار؛ رنّ هاتفه وكان صوتها على الطرف الاخر وهي تبتدر حواراً جديدا مبدية الشكر على مجيئه وسعادتها بالحوار، أكد امتنانه وأدرك بحدسه ان ذلك بداية لحوار جديد وكان الوقت نهاية اسبوع واقترح عليها ان يلتقيا إذا ما سمح وقتها بذلك واجابت بأريحية بانها على استعداد للقاء في المساء او نهاية الأسبوع القادم، قال لها انه غير متأكد من وجوده في باريس نهاية الاسبوع القادم اذ ربما سيذهب الى مكان اخر، اتفقا على اللقاء ذاك المساء.
اخذ يستعيد حواره معها عند طاولة مكتبها ويحل بعض شفراته واعادة ترتيبها من جديد، ويُمنّي النفس بان الشفرة غير المعلنة التي توصل اليها من ثنايا حوارهم المباشر والصامت معاً والذي اكملته نظراتهما المتقطعة تمنى ان يكون ما توصل اليه هو الحقيقة وقارن ما بين لغتها المهنية حينما هاتفته للمرة الاولى لإجراء الحوار ودفء صوتها في المحادثة التي اعقبت الحوار؛ وان لم تهاتفه كان سيفعل وفكر بعمق في تفاصيل اللقاء القادم وهو موقن بان ضحايا الحرب في افريقيا سوف يزداد عددهم بآخر، وسره ذلك.
كان سعيدا بانه تصرف كانسان ناضج ودعاها لتناول شيء من الشراب وابتسم حينما تذكر سؤالها له عن مكان اللقاء وهو الذي يحفظ مكان واحدا في باريس في بداية معرفته بالمدينة واجابها على الفور محطة (الكونكورد) بالمترو عند المسلة المصرية التي تقف عند باحتها الواسعة .
أخذ يُفكِّر في المسلة المصرية التي جاءت أو جيء بها إلى باريس وتم نهبها أو سرقتها أو اهدائها من الخديوي محمد علي باشا عربون صداقة مع فرنسا في رواية ؛ والذي اهدى مسلة اخرى من الكرنك لبريطانيا اكثر جمالا وكان من المفترض ان تؤخذ الى لندن كهدية ولكن انقذها عدم توفر الوسائل اللازمة لنقلها لضخامة حجمها لحسن الحظ او سوؤه هذا يعتمد على المكانة التي تقف فيها من هذه القضية، وفي النظرة الى موضوع المسلة المصرية أو الفرنسية منذ اكثر من 187عاما والتي اتت بإصرار وجهد من العالم الفرنسي شامبليون والذي يحمل احد شوارع القاهرة اسمه ايضا !! كان شامبليون لا يريد لها ان تكون في ميدان الكونكورد وعند مرضه أصر الامبراطور على وضعها في هذا الميدان فشكرا للإمبراطور والا ما كان بإمكان زكريا ان يحدد مكان اللقاء، وربما رجع الفضل ايضا الى الكورسيكي الذي فتح شهية العلماء للعلم والنهب معا.
كان الطقس باردا ومشوبا برياح وأمطار ولم يخفِ ذلك جمال وسط باريس التي تبدو كمتحف أكثر منها بمدينة وحينما تعرف لاحقا بباريس وجد ان هنالك باريس اخرى لا ينقلها الاعلام ودعاية وكالات السياحة ومعظم الافلام السينمائية وهي قطعة من بعض مدن افريقيا وبلدان المتوسط العربية تعج بالفقراء والمهمشين وارصفة المدن الافريقية التقليدية وفي الماضي ذهب الفرنسيون الى افريقيا وبلدان المستعمرات باحثين عن الموارد والثروات والان تم رد الزيارة بأطيب منها! وأصبح وجه باريس من أوجه ودماء متفرقة ولغات وثقافات ويشمل التنوع حتى بائعات الهوى!.
وأدار زكريا حواراً مع نفسِهِ بعد سنوات وهو يتذكر -بمتعة مختلطة بالألم- ماري ميشيل لويس وباريس؛ وتوصّلّ إلى أن العولمة تركت بصماتها في كل المدن الكبرى، وباريس ليست استثناء، فهي تحمل في احشائها ملايين الشباب الغاضبين بلا حدود والقادمين من عوالم مختلفة وعدة ثقافات وأضحوا على هامش المدينة وجزء من اغانيها الحزينة وهم يكافحون لإيجاد رافعة الى قلب باريس، ويصدهم خطاب لوبان وابنته المحشو بالعنصرية وفوبيا وفزاعة المهاجرين، ان المدينة التي تبدو كمتحف تضمر في أحشائها الاخرى البلدان التي ذهب اليها الفرنسيون بحثا عن الموارد، وقضايا التنوع والاعتراف بالآخر وايجاد صيغة جديدة، فأصبحت قضايا التنوع محض فرنسية وعالمية معاً، ألم يكُن الفريق القومي الفرنسي لكرة القدم يشبه فريقاً لأحد الدول الافريقية، أكثر من كونِهِ فرنسياً؟! إن قضايا التنوع قابلة للانفجار في أوروبا مثل افريقيا مع اختلاف اشكالية العلاقة وقد انقلبت تلك العلاقة الى مشنقة او قنبلة موقوتة. إن العلاقة الكولونيالية تتأبط شرا بالكولونيالين أنفسهم وان الاستعمار يؤتي اكله المر ويحتاج الى معالجة انسانية بلا حدود مثلما انتجت فرنسا أطباء بلا حدود.
بقدر ما كان ذهنه يحسب الساعات المتبقية للقاء ماري لويس ببطء؛ بسرعة أكثر كان قلبه، كانت ساعة يده وهو ينظر اليها تبدو كساعة معطلة، توقّفَتْ عن قراءة الوقت والمدهش ان الشيء الوحيد الذي يتحرك بسرعة كان قلبه وتمنى أن تدور ساعة يده كقلبه .
جاء إلى المسلة قبل الموعد بنصف الساعة؛ لم يزعجه البرد القارس ولم يشعر به كما في سابقات الايام فلقد كان لديه وقود نووي من دفء المواعيد، وحينما اقترب الميعاد بدقائق لا تعد على اصابع اليد الواحدة بدأت الامطار تتساقط برفق وتؤدة لم يكترث كان كل من حوله يحمل مظلة للمطر إلا هو، فموعده فقط الذي يقيه من المطر! اخذ ينظر في جميع الاتجاهات وعند موعدها بالضبط رآها كما لم يراها في لقاء منتصف النهار كانت تفرد مظلة قرمزية اللون فوق راسها وتعتمر طاقية حمراء مع وردة سوداء لم تكن ترتدي ملابس ساعات العمل الرسمية سوى الحذاء عالي الكعب الذي حمل لونا مختلفا وبدلاً من البنطال ارتدت فستان بنفسجي يغطي جسمها من غير احتشام دون اكمام، حينما اقترب منها كأن عطر باريس وزينتها كلها قد جاءت؛ وطبعت قبلة رشيقة على خده كبرق خاطف وسارا قليلا وعرضت عليه ان يشاركها مظلتها .
ذكرت له أنها تعرف هذا المكان جيداً وحاناته ومطاعمه المنتشرة في زواياه، وطلب منها أن تختار وجهتهما وأنه تحت طوع بنانها، وسارا متلاصقين بأمر من المظلة والمطر، وباريس مدينة تحترم عاشقيها وبدأت رحلتهما ولغة جديدة، وابتعدا عن المسلة المصرية التي ولدت في بلاد الشمس المشرقة والحارقة في الأقصر أقصى الجنوب؛ والجنوبي يستمد حرارته من حرارة المكان، والمسلةُ التي أُخذت عُنوةً في رواية ما حينما ربط الكورسيكي حملته بالعلماء الذين أحبوا مصر وعلوم المصريات وحضارات وادي النيل القديمة التي اشعلت خيالهم؛ رغم أنهم في زمان ما وفي اعرق مؤسساتهم الأكاديمية رفضوا ولحوالي عشر سنوات أن يمنحوا العالم والمفكر الشيخ انتا ديوب رسالة الدكتوراة، فقد كانوا يعتقدون ان أوروبا هي مركز الكون والعلم. والمسلةُ الآن أصبحت عنوانا لباريس ولابد انها قد عانت مثلنا من البرد والثلوج والامطار المنهمرة واشتاقت للنيل وتمنت ان تعود اليه وتذكرت الفلاحين الذين قاموا ببنائها وقد قضت الكوليرا على معظمهم وربما خفف من وحشة المسلة الموضات والعطور الباريسية التي تحف بها من كل أرجاء المكان.
كان فستان البنفسج الذي ترتديه يلتف حول جسدها ويغطيه بالكاد، كأن العناية قد رسمته كلوحة باهظة التكاليف من عصر الموناليزا وليوناردو دا فنشي، فقد كانت تشبه أجمل اللوحات في متحف اللوفر .
كانت دائرة الفستان حول خصرها كحدوة حصان اخذ مقاييسها بدقة، والسماء تحتفي بلقائهما وقد ازدادت الأمطار وضوء ماري ميشيل وجمالها امتداداً مأخوذاً من مدينة النور.
استقر المقام بهما عند حانة ومطعم (القلب النابض) مكانها المفضل في تلك الناحية من باريس، وسرعان ما اشتعلا في نقاش طويل حول أصل المسلة، ومن الذي بنى الاهرامات، الملوك أم الفلاحين؟ ومن الجدير بأن يُسجَّل تاريخه؛ آلاف الفلاحين والعمال والمهندسين والفنانين منهكي الاجساد الذين بنوا الاهرامات، ام الملوك؟ وهل المسلة هدية أم نهبٌ وسرقة؟ ذكّرها أن هذا النقاش حول المسلّة لم يبدأ اليوم، بل إن رفاعة رافع الطهطاوي هو من ابتدرَهُ حينما أتى إلى باريس في عام 1826م مع البعثة المصرية التي ابتعثها محمد علي باشا لتقود النهضة العلمية المصرية لاحقاً، وقد لخّص ملاحظاته حول باريس في كتابه الشهير “تخليص الإبريز في تلخيص باريز (باريس)” والحوار لم ينتهِ وها نحن نواصلُهُ معاً مرةً أخرى وفي باريس.
واصلا الحوار هل الإتيان بالمسلة الى باريس هو عنوان للتواصل الانساني للحضارات؟ وإذا كانت الفلسفات والعلوم الانسانية تقبل التبادل دونما احتجاج ويستفيد الجميع من منتجاتها في الهندسة والطب والزراعة لماذا لا يتم تبادل اثار الحضارات القديمة حتى تعم كل البشر؟ هل هذا نهب وتدمير لهوية شعب أم توسيع وانتشار لتلك الهوية؟ هل كسبت مصر ووادي النيل وهي تطل من قلب باريس أم خسرت؟ لماذا نحد من الفضاء البشري ونربطه بمحدودية الجغرافيا ومحدودية الدولة الوطنية؟ وهل الدولة الوطنية هي بداية ام نهاية الفضاء الإنساني، وتوقفا عند رحلة الجنرال الكورسيكي لمصر.
وكلما ازداد النقاش حرارة بينهما واتسع وامتد لجغرافيا العالم امتدت اياديهما رويداً رويداً في حوار بنفس حرارة افكارهما والجدل بينهما وتحدثا عن قيمة المصالحة الانسانية بين الحضارات والاعراق ومساهمات جميع الاعراق في صنع وبناء وانتاج الحضارة الانسانية وقال لها ان هذه فكرة من افكار الشيخ انتا ديوب عالم التاريخ وعلم الاجتماع السنغالي وقد احتوتها رسالته للدكتوراة في جامعة السوربون حول الاصول السوداء لحضارة وادي النيل ومع الحوار امتدت ارواحهما لجغرافيا جديدة، وعلى ذكر السوربون حدثته عن الحي اللاتيني الذي تحفظه عن ظهر قلب واتفقا على زيارته معاً؛ وحدثها أن رسالة الدكتوراة للشيخ انتا ديوب يطلق عليها انجيل التاريخ الافريقي وتحدثا عن فكرة فرنسا التي كانت نتاج المكونات الاوربية واختلاط الاجناس البشرية والتي تركت بصماتها في اللغة والثقافة، واعطت الفرنسية والفرنسيين حيزاً مميزاً في الفضاء الانساني الحيوي.
انتقلا بحديثهما إلى مطاعم باريس وطعامها المميز ذو الأصول الفرنسية والتي أتت من خارج باريس، ان قائمة الطعام في باريس مأخوذة من كل اجناس الطعام البشري والحضارات الانسانية وان بإمكانك في باريس ان تتناول كل يوم وجبة مختلفة طوال العام من أطعمة لا حصر لها تمثل المطبخ الفرنسي وبقاع الارض الأخرى، إن مطاعم باريس هي انعكاس لثراء فرنسا وتنوع الحضارة الانسانية كما ان الازياء الباريسية والموضة والعطور لا تمثل اصولها الفرنسية فحسب بقدر ما تمثل الانفتاح على ثقافات الأرض بلمسة فرنسية ومذاق كوني لا يخفى على أحد؛ كان الوقت يمضي بمعدل مضاد لساعات انتظاره الرتيبة لهذا الموعد وتنقلا من حانة الى حانة حتى تسلل ضوء الفجر واستقلّا عربة إلى جهة لم يُفصَح عنها بعد.
عندما التقى بها للمرة الاخيرة لايزال يتذكر شقتها المليئة بالألوان والورود الطازجة والخزف والأواني القديمة ولوحات الحائط والقماش ونباتات الظل الذي يبحث بعضها عن الضوء والرسومات والأشغال اليدوية والفلكلور الافريقي وتشكيلات من أثاث ذو طراز باريسي قديم يعكس روح المدينة منذ ثورتها المطالبة بالحرية والاخاء والمساواة ذات الأثر الكوني، والتي طبعت الحركات المدنية اللاحقة في أوروبا بطابعها وأثرَت الفضاء الانساني العريض، وفي زاوية من زوايا شقتها الأنيقة تقبع مكتبة صغيرة في حجرة الاستقبال؛ تضم كتبا باللغة الفرنسية والانجليزية وبطاقات تهاني لمناسبات مختلفة وازهار جافة في عدة مزهريات؛ كان ما يميز أثاث الشقة انها اشترت معظمه من أسواق باريس الاسبوعية التي تبيع عفش المنازل القديمة وقد أكل منها الزمن ولم يشرب، وباريس مشهورة بهذه الاسواق لمن زارها وهي ومضة من ومضات الماضي تحتفظ ببصمات أصحابها وتقلبات المشهد الثقافي الباريسي وتشكل عالم هذه المدينة الانساني الجميل والمجنون معا. إن باريس هي أجمل فاتنة لم تستطع شروخ الزمن احتوائها بالكامل يبدو عليها الاعياء الذي لا يخفي جمالها؛ لقد كان منزل ماري ميشيل شاهد على ذلك وهو ينم عن ذوق رفيع وشغف بالحياة .
استيقظ زكريا عند منتصف نهار الأحد واحتوته عطور باريس وأخذ يستجمع ذاكرته وتسونامي الذي ضربها في أقل من 24 ساعة؛ تذكر بعض النقاشات العاصفة بشكل متقطع في البداية ….. ماذا تضيف المسلة لباريس؟ وهل خسرت القاهرة والأقصر بغيابها؟ هل أضافت المسلة لمصر ووادي النيل في غيابها أكثر من الحضور؟ رجع بذاكرته الى رحلة الجنرال الكورسيكي وتاريخ المسلة والملايين يزورون المسلة كل عام تذكر انه في احدى اللحظات قال لماري ميشيل هل يسقط الحق بالتقادم؟ حتى ولو تجاهلته الملايين! هل يهم أن الكورسيكي ايطالي أو فرنسي؟ انه جزء من أمجاد فرنسا وبنائها ورموزها؛ تذكر سؤالها له عن اسمه الابراهيمي هل هو سطو ام تبادل انساني ام استلاب واغتراب وهيمنة ثقافية؟ وهل نشرب من كأس الاخرين دون إذن ونسي كل ذلك، ورائحة القهوة تنفذ اليه من جواره ومعها تحية صباحية او نهارية لا يهم .
كانت ماري ميشيل محايدة في عواطفها الدينية وتهتم بما تفعله في حياتها على الارض اكثر من رحلتها نحو السماء ولا تستنكف التصريح بانها مسؤولة عن حياتها في دنياها مع البشر وما تقدمه لهم من فرح انساني؛ اما عن السماء فهذه حياة لم تعشها بعد وغير معنية بإشكالاتها القادمة وستتصرف كما ينبغي حينما يصدق انها ستنتقل الى السماء ومع ذلك فهي تتمتع بقيم انسانية رفيعة مع نفسها ومع الاخرين وكان زكريا موسى حالة مغايرة لها في وحدة الفضاء الانساني؛ فهو يعيش في الارض ولا يتجاهل تذكرة السماء وحينما انخرط معها في النقاش مجددا وهما يحتسيان اكواب القهوة كانت الارض والسماء والانسان محور نقاشهما.
ماري ميشيل في حوارها معه عن العالم الآخر قال لها: “إن تذكرة العالم الآخر تُشترى من الأرض، لا عند الوصول إلى السماء”، قالت ساخرة: “إنها لا تُضيع وقتها في الدنيا من أجل شراء تذكرة للسماء” فإذا صعدت إلى هناك سوف تحصل على تذكرتها هناك، وأضافت: “إذا كانت تذكرة السماء سيحصل عليها كل البشر اللذين مروا على الأرض منذ الخليقة، فهل من الممكن تخيُّل ذلك؟” ردّ عليها: “إن الذي استطاع بدء الخليقة وسيل البشر منذ بدايتهم، هو قادرٌ على توفير تذكرة لكلٍّ منهم”، وأضاف: “إن طريق السماء طريقان، لا يؤديان إلى نفس المكان ولا نفس النتيجة، فهناك طريق من نعيم وآخر من جحيم، حسب ما تحصده أفعال المرء في الأرض، لا في السماء”، ضحكت، وحولت النقاش إلى موضوعٍ آخر، وكانت في الغالب لا تحب الجدل في القضايا ذات الطابع الديني والإيماني، وترى أن ذلك محض حرية شخصية، تزداد تعقيداً عند طرحها في الفضاء العام.
قالت إنها تريد أن تذهب معه إلى محطة الباستيل، أحد الأمكنة التي دارت فيها أحداث الثورة الفرنسية، وسألته: “أتعلم لماذا يُصرُّون عليك أن تأخذ كأساً أخيراً للطريق؟” ولم تنتظر ردَّهُ وأجابت: “إنهم في سجن الباستيل حينما كانوا يدفعون بالضحايا نحو المقصلة، يعطوهم كأساً أخيراً لوحشة الطريق”، وأنخرطا في نقاشٍ عن الثورة الفرنسية، انتهى بالحديث عن جوزفين، وقالت أنها تحب روح الإمبراطورة جوزفين الطلقة، وعدم تقيدها بالمراسم والطقوس والتقاليد الملكية، وأنها أقرب لليدي ديانا، وحينما تزوجت نابليون للمرة الثانية عاشت حياتها كما اتفق، فالكورسيكي باحثٌ عن الأمجاد في الجغرافيا، وهي تبحثُ عن الحياة، ولا تمانع في مشاركة حياتها مع الآخرين، وحتى مع الضابط شارل الذي كان تحت قيادة فرقة نابليون، ومع ذلك احتفظت بعلاقتها مع من يبحث عن الأمجاد، وكان قد قرأ سيرة جوزفين من قبل.
تذكّر زكريا من تلك السيرة كيف نجت الإمبراطورة جوزفين من عنف الثورة، الذي جزّ عنق زوجها الأول “الفيكونت” وتحول إسمها من روز إلى جوزفين، وأحب نابليون الاسم الأخير، لم تكُن تخَف من نابليون، ولم تخفي خياناتها الزوجية عنه، وكتبت كل ذلك في سيرتها التي خطها كاتب السير الشهير بيير فرانسوا في “جوزفين سيرة إمبراطورة” وهو الذي كتب أيضاً سيرة العظيم فيكتور هوغو، وذهبا إلى الباستيل وأمضيا النهار هناك بأحد أحياء باريس القديمة.
التقيا مراراً في باريس ولندن، وفي مُدُن افريقية وأوروبية عدة، ثم انقطعا عن اللقاءات لمدة عامين، أخذتهما فيها الحياة في اتجاهات مختلفة، فقد ذهبت ماري ميشيل لويس إلى أنغولا لتغطية الأخبار في حرب جوناثان سافيمبي والتي قضى فيها نحبه، ولم تعُد إلى باريس إلا بعد عامين، تبادلا الرسائل المحتشدة بالأشواق، والمكتظة بالذكريات وجمال الروح واللقاءات.
وقبل لقائهما الأخير في باريس، التقط من صفحتها على وسائل التواصل الاجتماعي أن الطبيب قد أخبرها خبراً محزناً، ولكنها كتبت عنه بحياد وكحقيقة من حقائق الحياة والأخبار غير الطيبة التي تحملها أحياناً، وخففت على معارفها هول الصدمة، كانت شجاعة، وهي تدرك أنها نهايات الطريق، ونشرت العديد من صورها، وبدا أن المرض قد أنهك جسدها ولكنه لم يطَل روحها، وأناقتها، وظلت تتحدث عنه باتزان، وهي تقاتل رحلتها الأخيرة، وتراجع طبيبها، وتنظر إلى قدرها مثلما تنظر في مرآة الحياة، ولا شئ ينُمُّ عن الهلع في تصرفاتها بقدر ما يشي بروحها المقاتلة، وحبها للحياة والإنسانية وذكريات الأمس، وأخذت تتأقلم مع السرطان المعتدي الأثيم، وهي في الأصل كانت تأخذُ الحياة كرحلة في قطارٍ أو طائرة، زمنها محدود، مهما عظُمت المسافة بين وقت المغادرة وزمن الوصول، وأدركت منذ البداية أن الأهم في كل ذلك هو كيف لنا أن نستمتع بالرحلة، ونجعلها مفيدةً للآخرين، وأن الرحلة لا تُقاس بالنهايات، بقدر ما تُقاس بجمال الطريق، والبصمات التي نتركها أكثر خلوداً من الرحلة نفسها، كانت ماري ميشيل لويس تعشقُ السياحة والسباحة في النفس البشرية.
أتى خصيصاً لزيارتها في باريس، وهاتفها زكريا موسى من المطار، طلبت منه أن يحدثها في اليوم التالي لأنها أخذت جرعة من العلاج الكيميائي صبيحة ذلك اليوم، وتريد أن تستجمع طاقتها للحديث، وتمنت له وقتاً طيباً في المدينة، وأنهت المحادثة القصيرة.
لم تعتَد في الأشهر الأخيرة أن تقابل معارفها وأقربائها، ولا حتى أصدقائها، اكتفت بدائرةٍ صغيرة من أسرتها وبعض الأصدقاء، وحينما هاتفها في اليوم التالي كان يريد أن يلتقيها، وكانت تريد أن تضع حائطاً من الصد أمام ذلك اللقاء، وقالت له بصوتٍ واهٍ أنها تريد أن يحتفظ بصورتها الأولى، ولكنه ألحّ، وطلب أن يراها حتى ولو عند باب شقتها وذكرها بكلمة المرور والرقم السري عند بوابة الدخول، ضحكت لأول مرة، وأكدت أنها ستأتي للقائه غداً، وتتمنى أن يكون يوماً مشمساً ودافئ، يليق بالنهايات.
حدد المواعيد بالقرب من منزلها الذي سجل له عشرات الزيارات من قبل عند محطة “منبرناس” حينما التقاها عند المحطة طلبت منه أن يتمشيا في تلك الجادة والشارع الطويل المؤدي إلى سان جيرمان، وأن يجلسا عند حانةٍ قديمة تواجه كنيسة سان جيرمان العتيقة، أمسكت بيده وهما يسيران في الطريق، لم يتحدثا، احترم صمتها، وعند منتصف الطريق، ضغطت على يده، وابتسمت، وطلبت منه فجأةً أن يُغيّرا خطتهما، وأن يذهبا إلى اتجاهٍ آخر، لقد كان اختيارها الجديد مزيجٌ من الماضي والحنين لذكريات الأمس وصور البدايات والحدس الذي يرى النهايات. إن النهاية قد تُماثِلُ ألف بداية ويجب أن يكون ختام كل سيمفونيةٍ جيدة مثل مدخل بداياتها، والحنين لا يخلو من الألم وفرح البدايات.
كانت ماري ميشيل إمرأةً عنيدة بقدر ما هي مُحبّةٌ للحياة، وكانت ساخرة وتأخذ الحياة ببساطة، وكانت بادية الأناقة عند اللقاء الأخير مثلما كانت في لقائهما الأول وهي سليلةُ أسرةٍ باريسيةٍ عريقة أخذت من باريس ملامحها المزدانةِ بدقة الأناقة والذوق الرفيع، ومع ذلك فهي منفتحة وحُرّة التفكير، تنتقي كلماتها بعناية، تماماً كما تنتقي ملابسها وزينة يومها، ويعكس طابع حياتها اليومي انفعالها بما حولها وبالحياة، وعندما التقيا غلب على مُحيّاها الصمت والكبرياء الرفيع الذي لم يأخذ منهما المرض إلا قليلاً، ولم يخفِ المرض فتنتها بقدر ما أخفت فتنتها ما بصحتها من عِلل.
وحينما طلبت منه فجأةً أن يُغيّرا خطتهما، وأن يذهبا إلى المسلة بدلاً من سان جيرمان، وإلى حانة “القلب النابض”، لم تنتظر اجابته فكانت عيناها مشعتانِ بضياء الكون، وأومأت لسائق التاكسي بالوقوف، وتوقف، وكأنه ينتظرُ منها الإشارة، وحينما هبطا في جوف التاكسي، اعتذرت له عن تغيير وجهتها الأولى، وقالت إن هذا اللقاء ربما يكون الأخير لذا فإنها قد فكرت في الذهاب إلى حيث ما كانت البدايات، ثم صمتت، لم يشأ أن يرد عليها، فقد عجبته الفكرة وأخذه الحنين، وأومأ برأسه إيجاباً مع ابتسامة، وتذكر أنه حينما هاتفها من المطار لم تكُن ترغب في هذا اللقاء، وحاولت الاعتذار بأن المرض يمتصُّ رحيق حياتها، ويتركها في أرضٍ يباب، لكنه كان يرغب في رؤية ذاك الوجه المحفور في الذاكرة، كان يريد أن يراها حتى ولو من خلف باب شقتها أو خلف الضباب، حتى وإن لم تُتح له فرصة مصافحتها، وإلا فلا معنى لقدومه لباريس.
في التاكسي وضع يده على كتفها، فأرخت رأسها على صدره، كانت جميلة بقدر ما مضى، كان وجهها شاحباً برسمٍ من جمال، استرخت، لم يشأ أن يزعجها، وأفاقت عند صوت سائق التاكسي وهو يقول لها بلغةٍ فرنسية، وبشكل ينُمّ عن التهذيب الباريسي: “لقد وصلنا سيدتي!” ضحكت ضحكة خافتة، ونادرة تلك الأيام، وقالت بلغةٍ إنجليزيةٍ رصينة، لقد وصلنا قبل المواعيد!
ذهبا إلى المسلّة ثمّ إلى حانة “القلب النابض” انتظرها علّها تطلب شرابها المُعتاد، والمفضّل، لكنها طلبت قهوة تركية، وفعل مثلها، قال لها: “إن شعرك يبدو جميلاً، لا يعلوه جديد، وليس كما ذكرتِ أنه قد تساقط”، ودون أن تنظر في عينيه، قالت له: “إنه ليس بشعري، بل هو يشبهه، عن قصدٍ واختيار، وخلعت شعرها المستعار” وبدت بيضة رأسها وعينيها اللتان تشبها رابعة النهار، وكأنها تُجرب موضةً باريسية حديثة، مع بعض الإرهاق، وذكر لها أن الفتيات الباريسيات سيقلدنّ هذه الموضة، إذا التقطت بعض الصور، فضحكت، ثم أسدلت شعرها المستعار مرةً أخرى، وقال لها أنكِ أجمل دون شعركِ المستعار، فضحكت مرةً أخرى، وأخبرته أنها لم تضحك منذ شهور كما ضحكت اليوم، وأن هذا لُطف معتاد منك، وأنها سعيدة بهذا اللقاء، وأنه قد أدخل البهجة إلى نفسها وهي سلعةٌ غالية كانت تبحثُ عنها.
تعمّد أن يحتسي قهوته ببطء، وكان يُدرك أنها تقيسُ سرعة احتسائها شرابها أو تناولها طعامها مع الشخص الذي تشاركه الشراب أو الطعام كنوعٍ من الإتيكيت الباريسي، وبمجرد أن احتسى قهوته طلبت منه أن يأذن لها بالذهاب، لم يُلِحّ عليها، كان الإرهاق قد بدأ يعلو وجهها، رغم أنها اجتهدت في إخفاء ذلك، ولاحظ دوائر وهالات سوداء على عينيها، اللتان لم ينطفئ بريقهنّ.
نظر إليها بعمق وبرقّة، وبادلته النظرات، وبرقت عينيها للحظة، واحتضنتهُ، واستسلمت وهي تودعه، وسقطت من عينيه دمعة، أخفاها قبل أن تراها، ودعته، وغادرا المكان وسارا بمحاذاة بعضهما إلى محطة “الكونكورد” وكانت ستأخذ قطاراً معاكساً له في الاتجاه، طلب أن يرافقها، فاعتذرت بلطف وبرقّتها المعتادة، وأخذت مكانها في عربة المترو، انتظر حتى غادر قطارها المحطة، أشارت له من مقعدها ولوحت يدها مع ابتسامة.
كانت تلك هي إشارة الوداع الأخيرة، هاتفته في يومه الأخير قبل مغادرة باريس، قائلةً إن الصور التي التقطاها في كل الأمكنة لا تزال تُزيُّنُ منزلها، وتؤنس وحشتها، وشكرته عليها، كانت محادثةً لا تخلو من الوجع!
لم يلتقيا مجدداً، ثم التقط خبر رحيلها إلى بارئ الأرواح من خبرٍ أوردتهُ محطة الأخبار التي كانت تعمل بها، ولا يزال يزورُ صفحتها على وسائل التواصل الاجتماعي، التي توقفت عن تجديدها منذ زمن، ويلقي عليها التحية من حينٍ لآخر، ويسترجعُ كلماتها الأخيرة، وهي تحاول التملُّص من لقائهما الأخير، لا تزال صورها تحمل ابتساماتها التي لم يعلوها غبار الزمن، ولم تصدأ بفعلِ الغياب.
الخرطوم
12 يناير 2021م
نقلا عن صفحة عرمان بالفيسبوك