
عندما قرأت إعلان تحالف “صمود” قبل يومين عن رؤيته لـ”إنهاء الحرب، استعادة الثورة، وتأسيس الدولة”، شعرت بتفاؤل وأمل في طرح جديد قد يحقق اختراقًا ملحًا للأزمة السياسية السودانية. لكن، بعد الاطلاع على الوثيقة التي تحمل هذه الرؤية، تبدد ذلك التفاؤل.
من النظرة الأولى، يتضح أن “صمود” تعاني من نقص حاد في الخبرة السياسية، وعجز واضح عن إنتاج فعل سياسي مؤثر. بل إنها، للأسف، لم تنجح حتى في صياغة بيان سياسي متماسك من حيث المبنى والمعنى.
الرؤية التي أصدرتها ليست سوى مقال طويل -يمتد لحوالي ثلاثة آلاف كلمة- يختلط فيه الرأي بالتحليل وخارطة الطريق، مع تناقضات غريبة تقدم فكرة ثم تتبنى نقيضها بعد أسطر قليلة.
هذه المشكلة ليست حكرًا على “صمود”، بل تعاني منها العديد من المكونات السياسية، أحزابًا وتحالفات، التي تفتقر إلى القدرة على التفكير الإبداعي وإنتاج حلول عملية للأزمات السودانية. بدلاً من ذلك، تلجأ إلى لغة البيانات السياسية العامة، المحشوة بعبارات مكررة ومملة، خالية من الجديد، ولا تضيف سوى ترديد محفوظات متداولة في الفضاء السياسي.
نظرًا لمحدودية مساحة هذا العمود، سأتناول بإيجاز بعض جوانب رؤية “صمود”، مع وعد بمقال لاحق يتناول بالتفصيل الأخطاء التي أشرت إليها، آملاً أن يجد النقد مساحة للقبول والاستفادة بدلاً من تجريمه واعتباره “رجسًا من عمل الشيطان”.
في الفقرة التي تتحدث عن أهداف الرؤية، وردت عبارة: “استكمال ثورة ديسمبر المجيدة والثورات السودانية لتحقيق غاياتها وترسيخ نظام الحكم المدني الديمقراطي”. هذه العبارة تعكس بوضوح ما وصفته بـ”شح الخبرة”. ثورة ديسمبر حققت هدفها بالإطاحة بالنظام الديكتاتوري في 11 أبريل 2019، وكان يفترض أن تنتهي مرحلة الثورة لتبدأ مرحلة بناء الدولة. لكن، للأسف، أحد أبرز أسباب الفشل في هذا التحول هو إصرار قوى الحرية والتغيير -الممثلة للثورة- على إبقاء البلاد في حالة “ثورة” بدلاً من الانتقال السريع إلى “بناء الدولة”.
الثورة حالة عابرة تهدف إلى إسقاط نظام حكم ديكتاتوري فاسد، وبمجرد تحقيق ذلك، يجب أن تنتقل إلى مرحلة بناء الدولة. إذا استمرت حالة الثورة، كما حدث في السودان، فإن النتيجة هي الفوضى التي نراها اليوم.
في نموذج سوريا، على سبيل المثال، يوضح هذا الفرق: بعد انتصار الثورة، بدأت سريعًا في بناء الدولة عبر تكوين مؤسسات طبيعية، وإرساء الاستقرار داخليًا، وتطبيع العلاقات خارجيًا. أما في السودان، فقد تأخر تشكيل الحكومة بعد انتصار الثورة بخمسة أشهر، ولم تُشكَّل بقية مؤسسات الدولة -مثل المجلس التشريعي، المحكمة الدستورية، مجلس القضاء الأعلى، ومجلس النيابة العامة- حتى سقوط النظام في 25 أكتوبر 2021. بل إن بعض القوى الحزبية تعمدت هذا التأخير لتُحكم قبضتها على “السلطة”، تلك السلطة التي كانت دائمًا وراء فشل الأحزاب في إرساء نظام ديمقراطي، حيث يتحول الصراع إلى لعبة صفرية لا مكان فيها للتشارك النبيل.
تحالف “صمود” قدم دليلاً آخر على “شح الخبرة” في صياغة رؤية يُفترض أنها تقدم حلولاً للأزمة السودانية. اقرأ هذه الفقرة من الوثيقة: (مدة الفترة التأسيسية الانتقالية:
• تكون مدة الفترة التأسيسية الانتقالية الأولى 5 سنوات وتنتهي بانتخابات عامة.
• تعقب الانتخابات فترة تأسيسية انتقالية ثانية مدتها 5 سنوات تقودها حكومة منتخبة تلتزم بإكمال مهام التأسيس.)
حسنًا، السودان الذي بلغ عمره المستقل حوالي 70 عامًا، يُطلب منه الآن أن يعيش مرحلتين انتقاليتين مدتهما 10 سنوات، ليصل عمره إلى 80 عامًا تحت التجريب والانتقال! لكن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن الحكومة والهياكل التي تُعيَّن في الفترة الانتقالية الأولى (5 سنوات) تنتهي بانتخابات، ثم تُطالب الحكومة المنتخبة -الشرعية شعبيًا- بالالتزام بقرارات فترة انتقالية معينة لا تستند إلى شرعية انتخابية، بل إلى وثيقة افتراضية. كيف يمكن لحكومة منتخبة، تتمتع بشرعية شعبية، أن تُلزم بقرارات هياكل معينة لم تُنتخب؟ هذا تناقض غريب.
من الواضح أن صائغي هذه الرؤية يفتقرون إلى فهم المرجعية السياسية التي تستند إليها هياكل الحكم المنتخبة. المجلس التشريعي المنتخب قادر على صياغة دستور كامل، لأنه يستمد شرعيته من الشعب. فكيف يُلزم بوثائق صادرة عن هياكل معينة لا تملك شرعية انتخابية؟