
كتب- إبراهيم عدلان- ورقة موقف حول الإصلاح المؤسسي والهيكلي في سلطة الطيران المدني- مقدمة- بعد الحرب التي عصفت بالسودان، تقف المؤسسات الوطنية أمام امتحان وجودي لإعادة البناء، وتتصدر سلطة الطيران المدني قائمة القطاعات التي يجب أن تُعاد هيكلتها وفق رؤية عصرية، تراعي المتغيرات، وتستثمر في رأس المال البشري، وتُعيد الثقة المحلية والدولية في سلامة المجال الجوي السوداني.
لكن الواقع المؤسسي الذي سبق الحرب، والذي لا يزال قائمًا، يُظهر خللاً هيكليًا عميقًا في منظومة الطيران المدني، أبرزها أزمة الكادر الفني، وضعف الحوافز، وتقييد السلطة بهياكل راتبية لا تناسب طبيعتها الفنية والتشغيلية.
هذه الورقة تتناول تحديًا محوريًا: إصلاح الهيكل المالي والتحفيزي لسلطة الطيران، بوصفه مدخلًا حقيقيًا للإصلاح المؤسسي.
أولًا: الهيكل الراتبي الموحد… قيدٌ على النهوض
ما تزال سلطة الطيران المدني خاضعة للهيكل الراتبي الموحد للدولة، وهو هيكل تقليدي صُمّم للوظائف
الإدارية العامة، ولا يراعي:
• خصوصية الطيران كقطاع فني عالي المخاطر
• الحاجة إلى كفاءات نادرة مؤهلة
• ضغط العمل والتقيد الزمني والتشغيلي
النتيجة:
• عزوف الكفاءات عن الانضمام إلى السلطة
• هجرة الخبرات إلى الخارج أو إلى القطاع الخاص
• ضعف الروح المهنية وغياب التنافس الإيجابي
ثانيًا: مفارقة الطيارين والمهندسين… الراتب كعدسة على الانحراف المؤسسي
بعد الحرب، ازدادت الحاجة إلى استقطاب طيارين ومهندسين متخصصين في مجالات السلامة وعمليات الطيران، لكن ضعف العائد المالي لدى السلطة، مقارنة بالقطاع الخاص، يجعلها أقل جاذبية للكادر الفني
المؤهل.
هذه الفجوة لا تؤدي فقط إلى عزوف الكفاءات، بل تفتح الباب أمام سلوكيات مهنية خطيرة، حيث يُصبح ضعف المرتب أرضية خصبة لظهور ممارسات مثل:
• غضّ الطرف عن المخالفات الفنية
• تمرير الأخطاء التشغيلية
• التحايل على القوانين والمعايير
كل ذلك بدافع “المجاملة المتبادلة” أو البحث عن مقابل غير مشروع في ظل غياب نظام رقابي داخلي فاعل، وضعف الحافز للتمسك بالنزاهة الفنية.
التوصيات:
• رفع رواتب الوظائف الفنية الحرجة لضمان استقلالية القرار الفني
• بناء آلية رقابة داخلية ومضادة تحصّن بيئة العمل من الانحرافات
ثالثًا: علاوتا “المنظمة” و”السلطة”… أدوات تمييز متغيّرة لا مخصصات جامدة
أُنشئت علاوتا “المنظمة” و“السلطة” بوصفهما أدوات تمييز مالي للعاملين في بيئة الطيران عالية
الحساسية، لكن التطبيق الحالي يُفرغهما من معناهما:
• تُصرفان بقيمة موحدة للجميع، دون مراعاة طبيعة الوظيفة أو موقعها أو خطرها.
• لا يُستخدمان لتحفيز الفنيين أو المراقبين أو المفتشين ممن يتحملون العبء الأكبر.
المطلوب اليوم هو النظر إلى هاتين العلاوتين كأداتين مرنتين ومتحركتين، ترتبطان بواقع الوظيفة ومسؤولياتها، لا كعلاوات ثابتة لا تفرّق بين المكلّف والمسؤول.
الأثر:
• تحسين قدرة السلطة على جذب الكوادر الفنية المؤهلة
• تعزيز الإحساس بالعدالة والتميّز المهني
• خلق مسار تطور وظيفي قائم على الجدارة والجهد
التوصية:
• إعادة تصميم العلاوتين على أسس متغيرة مرتبطة بمؤشرات أداء، وطبيعة العمل، والمخاطر، وحجم المسؤوليات.
رابعًا: وثيقة الإيكاو 9082… الإيرادات في خدمة الرصيد البشري
تُحصّل سلطة الطيران المدني إيرادات سنوية من رسوم العبور والملاحة تُمثّل موردًا استراتيجيًا لإعادة البناء بعد الحرب.
وقد نصت وثيقة الإيكاو رقم 9082، المرجعية الدولية الرسمية، على:
“ضرورة استخدام رسوم العبور في تطوير البنية التحتية للطيران، بما يشمل تأهيل وتحفيز الموارد البشرية التي تقدم خدمات الملاحة الجوية.”
لكن في السودان، تُدار هذه الموارد المالية ضمن نظام مركزي صارم، يُقيّد السلطة ويمنعها من توظيف هذه العائدات في التدريب، والحوافز، وبيئة العمل، مما يُضعف القدرة على الصمود والتعافي بعد الحرب.
التوصيات:
• تخصيص نسبة قانونية من رسوم العبور لتدريب وتحفيز الكادر الفني
• توجيه هذه الموارد إلى برامج اعتماد دولي، وتأمين بيئة تشغيلية لائقة
خامسًا: شروط الخدمة… تثبيت للجمود لا حافز للنمو
شروط خدمة العاملين في سلطة الطيران المدني تقوم على مفهوم الراتب الثابت بغض النظر عن تطور الأداء أو حجم المسؤولية.
هذا النمط لا يشجّع على التميّز، ولا يُكافئ أصحاب الجهد، ولا يُراعي الكفاءات الفنية، وهو ما يُخالف فلسفة الخدمة الحديثة القائمة على الأداء، والمهارة، ودرجة الخطورة.
المطلوب:
• إعادة صياغة شروط الخدمة لتكون مرنة ومتغيرة، وتربط العائد المالي بـ:
• التطور المهني
• تقييم الأداء
• المسؤوليات
• الندرة الفنية
• إدخال عنصر الأداء (Performance-based Pay) كجزء من الراتب أو المكافآت الدورية.
سادسًا: نحو استقلال مالي وإداري حقيقي
رغم أن سلطة الطيران المدني مؤسسة إيرادية بامتياز، فإنها ما تزال تدار وفق نظم مالية مركزية، تُقيد قدرتها على الاستثمار في كوادرها وتحديث بنيتها التشغيلية.
التوصيات:
• منح سلطة الطيران المدني استقلالًا ماليًا وإداريًا بقانون خاص
• إنشاء صندوق داخلي لتطوير الكادر والبنية التحتية غير الملموسة
• إخضاع السلطة لرقابة الأداء والمساءلة المهنية لا الرقابة المحاسبية فقط
سابعًا: إعادة تعريف الكادر البشري… مدخل لتحسين شروط الخدمة
من أهم ركائز الإصلاح المؤسسي في الطيران المدني السوداني هو إعادة تعريف وتصنيف الكادر البشري، لفصل ما هو فني مهني عن ما هو إداري مساند، وتطبيق نظم خدمة وحوافز مختلفة تتناسب مع طبيعة كل فئة.
التصنيف المقترح:
1. الكادر الفني المهني:
• مراقبو حركة جوية، مفتشو سلامة، مهندسو طيران، ضباط النقل الجوي وضباط امن الطيران و محللو ألبيانات التشغيلية
• يتطلب عملهم تراخيص مزاولة مهنة دولية، ويقع عليهم العبء الأكبر في السلامة
2. الكادر الإداري المساند:
• موظفو المالية، الموارد البشرية، الشؤون القانونية، الخدمات العامة
• لا يتطلب عملهم ترخيصًا فنّيًا، ويخضعون للأنظمة العامة للخدمة المدنية
هذا التصنيف ليس تمييزًا، بل مدخل للعدالة المهنية، يتيح تصميم شروط خدمة مخصصة لكل فئة، ويُعيد الاعتبار للوظائف الفنية عالية المخاطر.
التوصيات:
• اعتماد هذا التصنيف رسميًا في الهيكل الإداري للسلطة
• فصل شروط الخدمة والحوافز لكل فئة حسب طبيعة الوظيفة
• ربط المسارات الفنية المهنية بالتراخيص الدولية والاعتماد المستمر
خاتمة: ما بعد الحرب يبدأ من الإنسان
إعادة بناء الطيران المدني لا تبدأ بتأهيل الرادارات والمدارج، بل تبدأ من إصلاح العلاقة بين المؤسسة وموظفيها، من خلال:
• نظام أجور عادل وجاذب
• بيئة عمل محترمة وآمنة
• اعتراف بقيمة التخصص الفني
• ربط العائد بالجهد والكفاءة والالتزام
فكما أن السلامة الجوية لا تقبل الخطأ، فإن الإصلاح المؤسسي لا يحتمل الإهمال في بناء الإنسان.
التوصيات المجملة
1. إصلاح الهيكل الراتبي لسلطة الطيران المدني، خارج إطار الهيكل العام للدولة.
2. تحويل علاوتي “المنظمة” و”السلطة” إلى أدوات تمييز متغيرة وفق المهام والمخاطر.
3. تخصيص نسبة ثابتة من رسوم العبور لتأهيل وتحفيز الكوادر الفنية.
4. تعديل شروط الخدمة لتكون مبنية على الأداء والمسؤولية.
5. تمكين السلطة من استقلال مالي وإداري يخضع لمعايير المراقبة المؤسسية.
6. تحصين بيئة العمل من الفساد الإداري عبر أجور عادلة ورقابة مهنية.
7. إعادة تعريف الكادر البشري وتصنيف الوظائف بين فني وإداري لضمان عدالة الخدمة.
8. تبني خارطة إصلاح مؤسسي تبدأ من الإنسان وتنتهي بامتثال الدولة لمعايير الإيكاو