
كتب عثمان ميرغني- استقبلت العاصمة الإدارية المؤقتة بورتسودان وفدًا إثيوبيًا رفيع المستوى برئاسة السيد رضوان حسين المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات الوطني الإثيوبي، يرافقه السيد قيتاشو ردا، مستشار رئيس الوزراء الإثيوبي لشؤون شرق أفريقيا.
الوفد التقى الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل المدير العام لجهاز المخابرات السوداني وسلمه رسالة من رئيس الوزراء أبي أحمد إلى رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان.
حسب البيان الرسمي للوفد الإثيوبي (عبّرنا عن التزام إثيوبيا الثابت بمساعدة السودان على استعادة السلام والاستقرار، كما شاركنا تجربتنا) إضافة لشكر البرهان على جهوده في حماية اللاجئين، والتنسيق لضمان عودتهم الآمنة إلى بلادهم.
أجهزة المخابرات في عالم اليوم تلعب دور الجهاز العصبي المركزي في جسم الإنسان، فهي تنقل الإشارات الضرورية لضمان الحياة في جسم الدولة كما توفر دبلوماسية فائقة الفعالية والسرعة في التواصل بين الدول.
وفي مثل هذه الزيارات الثنائية تعتلي هموم الأمن القومي رأس كل الأجندة الأخرى.
ولن يكون صعبًا رؤية الدوائر الحمراء المتقاطعة للأمن القومي للبلدين السودان وإثيوبيا. وهي دوائر تتخطى الحدود المشتركة إلى شركاء آخرين في المنطقة على رأسهم مصر وإريتريا. ومن الصعوبة بمكان ضبط معايير الأمن القومي ثنائيًا بين السودان وإثيوبيا دون النظر للشريكين الآخرين.
أجندة الأمن القومي المشترك تتقاسمها عوامل الجذب والشد.. المنافع المحتملة توازنها أدوات الضغط.
السودان تربطه بإثيوبيا حدود مشتركة ما تدفق عبرها من لاجئين فارين من الحروب في البلدين أكبر كثيرًا من الصادرات والواردات من كل بلد للآخر.
ولا تزال أدوات الإيذاء المتبادل أسهل من المنافع المتبادلة.
عندما قال الرئيس أبي أحمد -قبل شهور- إنه لن يبادل السودان المعاملة بالمثل فينتهز فرصة الحرب ليغزو إقليم “الفشقة”، كان ذلك إشارة لإحدى أدوات الإيذاء المتبادل.. لكن بالضرورة مثل هذا الافتراض -غزو السودان- يعني عمليًا تهديدًا مباشرًا للأمن القومي لمصر وإريتريا معًا.
ويعني استثارة أدوات الإيذاء لدى السودان في تأجيج الفتن القومية للجارة الشرقية.
المشهد الكلي لمآلات ذلك لن يستفيد منه طرف.. ونتيجته استمرار شقاء شعوب المنطقة التي لم تسترح من آلامها.
إثيوبيا -في سياق نظرية الأمن القومي- بنت تحالفات وشراكات من خارج الإقليم بل والقارة، دول ذات وزن دولي مثل الصين والإمارات وتركيا وحققت نتائج باهرة من ذلك، اقتصاديًا وأمنيًا. لكن لا تزال في حاجة ماسة لمخاطبة قضايا أساسية بالتحديد في الأمن المائي بشقيه في النهر والبحر.. سد النهضة، والبحث عن منفذ بحري آمن ومستدام.
ووصل الأمر بالرئيس أبي أحمد أن هدد بالحصول على مرفأ بحري ولو بالقوة، ولجأ لدولة غير معترف بها دوليًا لكن كان واضحًا أنه ابتدار لأزمة جديدة بدلًا عن حل أزمة راهنة.
زيارة الوفد الإثيوبي للسودان تحمل مساومة إيجابية من مبدأ فوز-فوز.. مقايضة الاستقرار بالاستقرار بين البلدين. المساعدة في إيقاف الحرب في السودان بمقابل مطلوبات مناظرة.. تأمين الحدود وتجنب النظر إلى حرمات الداخل الإثيوبي، بالأصالة أو الوكالة.
الصفقة الإثيوبية تبدو موضوعية ومقنعة لكنها مرتبطة بمحددات أساسية:
الأول: شركاء الأمن القومي الإقليمي مصر وإريتريا هم جزء منها ولا يمكن تجاوزهما.
الثاني: العلاقات بين السودان والإمارات.. وبالضرورة تأثير الحرب على هذه العلاقة.
الثالث: الأوضاع الداخلية في الدولة السودانية وغياب الرؤية الواضحة للعلاقات الخارجية عموما والإقليم والقرن الإفريقي خاصة.
رسالة أبي أحمد مزدوجة، تستهدف عرضًا لتأسيس أرضية مشتركة مع السودان في القضايا آنفة الذكر، واستئناف وساطة سابقة للحوار مع الإمارات.
ستكون العقبة الأولى في الحصول على نتائج من الجانب السوداني إجراءات تأسيس حكومة جديدة برئاسة الدكتور كامل إدريس الذي يحتاج إلى مهلة لاستكمال تشكيل حكومته ثم التوافق على السياسات الجديدة مع المكون السيادي – بالتحديد الشق العسكري فيه – خاصة المتعلقة بالعلاقات الخارجية لكونها ظلت ولا تزال متنازعة بين المؤسسة الدبلوماسية والرئاسة.
من الحكمة أن يستعين رئيس الوزراء بفريق عمل دبلوماسي ومخابراتي متخصص للنظر في الطرح الإثيوبي يوفر دعمًا استباقيًا للقرارات المنتظرة من السودان، غض النظر عن جهة إصدارها.
ما أضر بالسودان في الفترة الماضية أكثر من بطء النظر في قضايا لا تحتمل اللعب في منطقة الوسط.. وذلك ناتج من غياب الرؤية الكلية للدولة السودانية والاستغراق في مواقف ردود الأفعال.