الرئيسيةمقالات

القيادية الإسلامية سناء حمد العوض تكتب عن الفريق نصر الدين عبدالفتاح تحت عنوان “أخيرًا .. هناك رموز”

كتبت القيادية الإسلامية سناء حمد العوض عن الفريق نصر الدين عبدالفتاح تحت عنوان “أخيرًا .. هناك رموز” قائلة: جلست عند ضفة النيل عصر يومٍ من يناير 2019، أتأمل تلك الموجات الصغيرة التي سرعان ما تبتلعها أخرى أكبر، والنيل الأزرق يسرع الخُطى شمالًا. أسائل نفسي: هل الموجة القادمة ستبتلع السودان أم سيصمد؟! كان السؤال يؤرقني.

 

لذلك قصدت النيل، فعند ضفافه أجد نفسي ويصفو ذهني. وكنت على يقين، بعد أن جلست مع عددٍ ممن يمسكون بالقرار أو يُعدون له ، أننا في نهايات حقبة، لكن المستقبل مجهول. كنت أفكر في هذا المجهول، أحاول فهم كنهه ومعرفة طبيعته وحدوده. جلست لساعاتٍ صفا فيها ذهني، ويومها قمت من مجلسي مع النهر الذي أحب، يملؤني القلق.

 

عدت إلى صخب الخرطوم، وأكاد لا أرى أمامي. التقيت بعدها ببعض الأصدقاء، وتحدثنا عن البلد ومستقبلها. أتذكر أني قلت: إن حاضرها مُرهق لكنه أكثر أمانًا، وأفضل أن يغلب الوعي وتتراجع حظوظ النفس ويعلو صوت العقل. أما مستقبلها، إن صح توقعي وانهارت الحكومة، فسيكون محفوفًا بالمخاطر، التي تشمل المواطن الفرد والوطن ككل.

 

وما يزيد الأوضاع صعوبة أن هذه البلاد بلا رموز مُلهمة؛ سياسية أو عسكرية أو ثقافية أو أدبية أو رياضية. نحن الآن بلد عوام يتفاوتون في درجات هذه الحالة ومظاهرها: من البساطة والعفوية، والحلول الجزئية للقضايا والمشكلات، حيث يرى كلٌّ المشكلة من زاويته! ينتقدون كل من تسنَّم العمل العام أو ترقّى درجة في الاقتصاد أو المجتمع، حتى يهرب الناجحون منه.

 

تتلبس العوام حالة من البحث عن الكمال في الآخرين وهم يفتقرون إليه، ويتحدثون في كل شيء دون علمٍ كامل أو تخصص، كما يتميزون بسرعة الانقياد وراء الشائعات التي يسمعونها ويروجون لها دون تثبّت، وذلك لضعف مقدرتهم على التمحيص النقدي.

 

هم دائمًا يبحثون عن العدالة البسيطة، إذ لديهم حسٌّ فطري نحو الإنصاف، ومعادلتهم قائمة بين الخير والشر، والحق والباطل، لكن غالبًا في صورةٍ مبسطة بعيدة عن تعقيدات القوانين والسياسات، مما يسهل استغلالهم من قِبَل النخب. فالعوام هم القوة الكامنة لأي مجتمع، وبدونهم لا تستمر النخب ولا الحكومات، لكن ضعف التنظيم والفكر النقدي يجعلهم أداة سهلة للتأثير والتوظيف والاستغلال، وهم في الوقت نفسه مصدر الشرعية الشعبية، وأحيانًا الشرارة التي تُغير مسار التاريخ.

 

وبدون رموزٍ واعية يجتمع حولها الناس ويفتخرون بها ويقتدون بسيرتها، يتحول الإصلاح والتغيير الذي ينخرطون فيه من عملٍ صالح إلى وبالٍ وشرٍّ.

 

في ذلك الوقت كان القلق والخوف كبيرَين على بلدٍ بلا نجومٍ هادية في ظلام ليلٍ بهيم يحيط بها ويسكنها، بلدٍ بلا رموزٍ يُقتدى بها ويُصطفّ حولها، بلدٍ مهدَّد بالتوهان في مسيرةٍ بلا دليل. ظل هذا الأمر هاجسًا يؤرقني وأتأمله بيأس، حتى اندلعت هذه الحرب الكاشفة، هذه النار التي اشتعلت. فقد كانت في بعض جوانبها منحةً لهذه البلاد، إذ أظهرت معادن الرجال، وفي ظل هذه المِحنة تألقت في سماء السودان نجوم ورموز.

 

اليوم، السودان يخطو نحو المستقبل وقد برزت رموز يلتف حولها الناس ويمجّدونها. لقد كانت شهادة الحبيب الفقيه محمد الفضل فتحًا كبيرًا؛ صعد شهيدًا إلى ربه، لكنه تنزّل قيمًا ومعانيَ وسكن قلوب جيلٍ كامل من الشباب واليافعين رمزًا وقدوة. ارتقى عثمان مكاوي، وصعد خطاب وحذيفة إسطنبول، وصدق محمد صديق وعده ببطولةٍ نادرة، وغيرهم من الشباب تحوّلوا ليكونوا رموزًا وقدوات لجيلٍ مختلف.

 

لقد أهدت هذه الحرب للسودان شابًا عبر من الظل إلى الضوء مثالًا للشباب وطمأنينةً لمن سبقوهم سنًا وتجربة؛ فقد غدا المصباح طلحة رمزًا لأجيالٍ ومعانٍ سامقة.

 

لكن هناك صعودًا مختلفًا لرمزٍ فريد، حجز مقامًا رفيعًا في ذاكرة السودان وقلوب السودانيين؛ جسّد صورة الأبطال كما تغنّى لهم الناس، ومثّل أنموذج البطل المقدام القوي، المبادر والشجاع والحكيم والعطوف والمتواضع. لقد نقش الفريق نصر الدين عبد الفتاح اسمه ورسمه بأحرفٍ من نور في تاريخ السودان.

 

فهو من حمى الخرطوم من السقوط الكامل في يد الغزاة المجرمين، وهو من صمد في الحصار لشهورٍ طوال، وهو وقواته من أرهقوا الغزاة والخونة الذين تكسرت نصالهم عند أسوار المدرعات.

 

تحت قيادته صمدت المدرعات، وهلك على أسوارها الآلاف من خيرة ضباط وجنود الدعم السريع، وسقط جندهم بالآلاف كما لم يسقطوا من قبل ولا من بعد.

 

والقائد الرمز هو من قاد حملة استعادة جوهرة النيل شبرًا شبرًا، وصولًا إلى معركة شارع القصر التاريخية، التي كانت قاصمةً لظهر الجنجويد وبداية لمسيرة دحرهم.

 

لن ينسى أهل الخرطوم خاصةً، والسودانيون عامةً، هذا البطل؛ هذا النموذج المحترف في الجيش السوداني. وسيسقط من ذاكرة التاريخ الصغار الذين قعدت بهم هممهم وحظوظ أنفسهم وسوء تقديرهم عن هذا المجد.

 

امضِ يا معاليك، ولا تبتئس من أن هذا الجيش الذي أعفيت منه بطلب ( حميدتي ) عاد إليك يطلب عونك، حينما صدق حدسك فتمرد عليهم، فما ترددت وقلت: “لبّيك”، وبالخطوة السريعة لبّيت، تحفر في الصخر في المدرعات حتى نجت الخرطوم وسلمت. وكان تقدير قيادة الجيش لجهدكم هو الإعفاء في خضم المعركة!! لكن يا سيدي، للشعب السوداني النبيل رأيٌ آخر؛ احتفى بك ضابطًا عظيمًا وفارسًا علمًا، متلحفًا بغبار المعارك وعرقها، واحتفى بك وأنت تغادر موقعك كرهًا، لكن كبطلٍ عظيم ورمزٍ خالد.

 

امضِ سعادة الفريق، وقد تزيّنت بك هذه النجوم والعلامات وأنت أهل لها وأكثر. امضِ، وقد رفع الله ذكرك كما رفع عن كاهلك عبء المسؤولية والتكليف. امضِ إلى حيث تشاء، فاسمك قد نُقش في القلوب وفي سجل التاريخ، وما ضرك من غاب عن هذا المجد إلا قَزًى.

 

امضِ وأنت تعلم أنك وآخرين من أبناء السودان الخُلَّص كتبتم بعرقكم ودمائكم صفحة جديدة في تاريخ هذا الوطن، وحققتم في الوجدان والتاريخ نقلةً يصعب التراجع عنها، وقدّمتم نماذج حذا حذوها الآلاف.

 

وطالما أنك وآخرين قد زيَّنتم حاضرنا كرموز، فإن بلادنا –بإذن الله– ستكون بخير، وهي ترفل بعونه وقوته بين الوعي والقوة، قاصدةً المستقبل.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى