الرئيسيةمقالات

كان صباح الهدنة يترنح تحت وقع دوي الانفجارات “الحلقة الأولى

كتبعزمي عبد الرازق تحت عنوان “سيرة شخصية مختصرة من ذاكرة الحـ..ـرب “الحلقة الأولى”- قائلا: مطلع مايو 2023، كان صباح الهدنة يترنح تحت وقع دوي الانفجارات، وقد بدت جزيرة توتي، تلك الجميلة النائمة، محاصرة من كافة الأنحاء، البيوت صامتة، والأزقة خاوية إلا من القطط الجائعة التي تنهش في صناديق القمامة، ليس ثمة قمامة في الحقيقة، الثلاجة فارغة من بقايا الطعام، الخبز تصلّب كالحجارة.
خرجت أتمشى في شوارع الجزيرة الصغيرة، المحلات مغلقة، حتى وجبة “الأندومي” التي كانت تملأ الرفوف التجارية اختفت عن الأنظار، وكذلك بائعات “المنقة بالشطة”
حدثت نفسي بمغادرة جزيرة توتي إلى ولاية الجزيرة، لكن سيارتي -رفيقة الدروب- تمردت علىّ ورفضت أن تدور. لا محطة وقود، ولا حتى بائع البنزين في الظل كما كان الحال أيام الشدة. لم يبقَ لنا إلا الخبز الجاف، نصف وجبة سخينة، تذكرنا بفداحة مجاعة سنة ستة إبّان العهد التعايشي.
توتي لم تعد آمنة. سيارات استخبارات الدعم السريع تتسلل صمت، كقطط الليل، تبحث عن مستشار حميدتي الذي اختفى عنهم. القناصة تمركزوا في مباني المعاشات وقاعة الصداقة والديار القطرية، والجسر – شريان الحياة الوحيد – أصبح في قبضتهم أيضاً. السيارات التي كانت تعبر إلى توتي كل صباح، مع أصوات طيور البلشون واللقلق احتجبت لتوها، أو بالأحرى أرعبتها بنادق الجنجويد الطائشة.
لقد أضعت فرصة مغادرة مع آخر فوج من اليمنيين أثناء هدنة قصيرة، تركتها تمر أمامي، كما يترك الصياد سمكة كبيرة تفلت من شباكه، انتظارًا لفرصة أوفر حظًا، يا للغباء، في الحقيقة تخيلت نهاية قريبة للمواجهات، التي لم تأخذ بعد اسم الحرب.
المدينة تختنق، تحاور مصيرها المجهول. قوات حميدتي تضيق الخناق على القيادة العامة. فجأة رأيت طائرة اللواء طلال الريح تحلق في السماء، ثم تغطس في السحب، كم لو أنها تتزود منها، وترتد كطائر جارح ينقض على فريسته، تلقي بحممها فوق مواقع الميليشيا، وهو ما لم يكن في الحسبان، إذ تخيّل دقلو أنه باحتلاله لمطار مروي وحصار القاعدة الجوية في الأبيض، أنه سيطر على الأرض وحجب الفضاء.
القصر الرئاسي يتعرض للقصف من الشرق، والإذاعة من الغرب. ونحن بالمنتصف، منتصف النيران، في غضون ساعات قليلة، سوف تسقط العمارة الاستراتيجية قبالة نفق جامعة السودان في أيدي المتمردين، وسوف يمتلئ شارع الغابة، آخر منفذ للهروب، بجثث قواتهم المتفحمة.
أحسست بثقل في صدري، وشعور مبهم بالخطر بدأ يغمرني، الأطفال في البيت، والسماء تمطر نارًا. تذكرت عبد الرحمن الداخل “صقر قريش” حين كان مطارداّ من قبل العباسيين، وسأله خادمه بدر: ما الخطة يا مولاي؟ فرد عليه: “الخطة أن نبقى على قيد الحياة”.
طرقت باب جاري الرائد محمد، ضابط شجاع من أهل كسلا، يعمل في القصر الرئاسي. لم أجده، فقد أخذته الميليشيا على حين غِرّة، غدرت به أثناء المناوبة الليلية، وقد جدت طفلته الصغيرة في انتظاره، في عينيها حزن، وعلمت أنهم اقتادوه لاحقاً إلى مكان مجهول.
بزغ نهار الخرطوم دافئاً وبلا مطر، مناوشات متقطعة في مكان ما، تتغير مواقع الموضع بسرعة، وأحياناً تتصاعد أعمدة الدخان من أمام القيادة العامة، البحر يهدأ كأنه يستمع لحكايات المساء، لطالما شهد مثل هذه الحروب، الفجائع، وتجشأها في عنفوان الفيضان. رن الهاتف. على الشاشة الصغيرة اسم عبد الباقي الظافر من مكتب قناة الجزيرة، يتسلل صوته إلى أذني من مكان لا يبعد إلا بمقدار ما بين شاطئ النيل الأبيض والأزرق عند المقرن، لكنه بدا بعيدًا كبقعة ضوء في ليل الصحراء. قال لي: “نريدك معنا على الهواء، من داخل استوديوهات الجزيرة. معنا أيضًا بالمقابل الجميل الفاضل.”، هذه فرصة جيدة للظهور، لن تندم.
ترددت. العرض مغرٍ، لكنه قد يكون طريقًا إلى الموت. كيف أرفض، والجنود هناك يقدمون أرواحهم في هذه الحرب بلا هوادة، ثمة واجب مقدس، فأنا مقاتل أيضاً بسلاح الكلمة، ابن مقاتل سابق في الجيش. قلت في سري ” ثمة ما يستحق التضحية”. بعد نصف ساعة، جاء الاتصال الثاني من الظافر، وقال لي: بعد ساعة، دراجة بخارية ستأخذك إلى فندق كورنثيا”. وبالفعل انطلقت رحلة المخاطرة، في منتصف الجسر، قناصة الديار القطرية فتحوا نيرانهم علينا. الرصاص يضرب السياج الحديدي، يرتطم به كالحجارة، تسمع صدى ذلك الارتطام يتردد شيئا فشيئا، وأنا أنحني، كمن يتهيأ للغوص في النيل هربًا من الرصاص، هكذا نصحني قائد الدراجة ” أخفض رأسك”، والنيران تطاردنا كما لو أننا فريسة.
الخرطوم بدت مدينة أخرى. الشوارع التي كانت تضج بالحياة، صارت صامتة كالقبور، اختنقت أصوات السيارات والباعة، ثم ماتت، رأيت سيارة أسفل الجسر عليها دماء متخثرة، في الفندق الذي تسللت إليه خِلسة لم أجد سوى طباخ وحيد، وطاولة طعام حزينة، الفندق الذي كان يضج بالحياة، بلا نزلاء سوى طاقم مكتب الجزيرة.
في تلك الليلة، اقتحموا سجن كوبر. أحمد هارون ظهر في تسجيل، يقول إنهم خرجوا لحماية أنفسهم، معلنًا دعمهم للجيش. في الاستوديو، كان ضيف آخر يردد بأنها حرب فلول”، فقلت له أمام الكاميرا :”هذه حرب ضد الوطن، الميليشيا تريد ابتلاع الدولة، وهي بندقية مأجورة لمستعمر جديد، استُخدمت من قبل لحراسة أبواب القارة العجوز، في ما يسمى بمكافحة الهجرة غير الشرعية مقابل حفنة من الدولارات، من هنالك بدأت محاولة تدجين قياتها، والسيطرة عليها، ونمت وكبرت مع طموحات دقلو المتعطش للسلطة، بأي ثمن، حتى أنه ما سمع بساحر أو مشعوذ إلا وشد إليه الرحال، أو طلبه على جناح السرعة.
مضت الأيام، والساعات ثقيلة، كما لو أن عقاربها تدور للوراء، المستقبل غامض مخيف، لا أحد يملك معلومة عن ما يجري على الأرض، فحميدتي يقول إن البرهان محاصر في البدورم وأنهم اقتربوا منه، وقائد الجيش الذي يقاتل بجسارة إلى جانب قواته من الحرس الرئاسي، يبدو مطمئناً، ويسخر من خصمه الجديد، وكانت الوكالات العالمية تحاول تصوير المعركة بأنها صراع بين جنرالين.
تذكرت بطل نجيب محفوظ الشيخ عبد ربه التائه، وهو يجيب على سؤال كيف تنتهي المحنة؟ قائلاً :” إن خرجنا سالمين فهى الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل”، ولكن ماذا عني، كيف سوف أخرج من هذا الفندق، من الورطة فإن نجوت من حصار الجنجويد كيف سوف انجو، ننجو من الطيران الذي يحلق فوقنا؟ وبالفعل، اهتزت غُرف الفندق بشدة، كما لو أن ثمة زلزال، زجاج برج الدكتاتور الليبي لن يقوى على الصمود، ثم رأيت من النافذة المحطّمة أربع سيارات تقف عند البوابة بلا حراسة، يرتدون زي الدعم السريع التي تحت عليه رمال الصحراء، أخبرت أحد المصورين بذلك، فنصحني أن أختبئ في غرفة وألزم الصمت.
بعد دقائق، رن الهاتف برقم مجهول. ترددت، ثم رفعت السماعة.. نفس الصوت الذي كنت أخشى وأحاذر..
نواصل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى