أمضيتُ الشهورَ الأولى، وفترة الصدمةِ العنيفةِ كلها في أمدرمان رفقةَ أسرتي الصغيرة داخلَ بيتِي المتواضع الواقعِ على مقربةٍ من منطقة “وادي سيدنا العسكرية” التي عايشنا خلالها أبشع المآسي، والظروف الإنسانية بالغة التعقيد- بالدرجة التي أجبرتنا على أن تضع زوجتي مولودها في المنزل دون أدنى مقوماتٍ صحية، أو ترتيباتٍ وقائية على غير المعتاد، ولكن سُرعان ما اختطفت يدُ المنونِ روحَ طفلي الغضّة بُعيدَ ساعاتٍ من اطلالتِه البريئة جرّاء القصف العشوائي المُتَعَامِدِ على رؤوسنا ليلَ نهار والذي تطلقه مليشيا التمرد المُريع دون مثقال ذرّةٍ من وازعٍ دينيٍّ أو اخلاقي- مما أصابه بحالةِ اختناقٍ، وضيقٍ في التنفس شأنه شأن العشرات من حديثي الولادة واليافعين وكبار السّن الذين واجهوا حتمية الموت بعد أن ضاقت عليهم شرايين الحياة، وتناءت عنهم فرصة النجاة في ظل انعدام الأمن، وانتشار قناصي المليشيا فوقَ شواهق العمارات والمباني، وخطورة الوصول إلى مستشفى “النو” بإعتباره المستشفى الوحيد الذي كان يعمل في أمدرمان.
ظللنا طيلة تلك المُدّة العصيبة ونحن نستنكر خيانة الدعم السريع، وغدره، ونقضه للعهود والمواثيق من خلالِ المنصات الإعلامية، ومنابر أمدرمان ومساجدها، حينما اعترى الكثيرين حالةٌ من الخوفِ والفزع من ذكرِ كلمة ” الجنجويد ” على ألسنتهم همساً- ناهيك عن أن يجهروا بها في منبر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالرغم من تدبير وتخطيط ونصب الكمائن لاغتيالنا عدة مرّات- دون أن نصرخ، ونعوي في وجوه زملائنا- بمناسبة وبغير مناسبة – في (الهينة والقاسية) هوووي يا ناس انا قاعد في أمدرمان؟! أمدرمان الحبيبة الممهورة بدماء شهداء القوات المسلحة الأطهار، والمواطنين الأبرياء الأبرار، ولعل ّ صفحتي هذه- في هذا الفضاء الرحب خير شاهدةٍ على مناصحتنا، ورسائلنا لمجلس السيادة الموقر حسبةً للهِ وحرصاً على الوطن دون مَنٍّ ولا أذى- فلا يخرجنَّ علينا اليومَ أحدُهم من ذوي الشخصياتِ النرجسية، المتوهمين الوصايةَ على الجيش وداعميه، وهو يُفاخر ويمتنُّ على السّودان ببقائه في أمدرمان- بقاءً مُتعلٍقاً بمصالِحه الخاصة المرتبطة باستمرارِ المعارك، وتدّفق الإغاثات والمعونات، فمصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائد..!! وهو الذي توارى تماماً بالحجاب، ولم نسمع له صوتاً، ولا تقريراً تئنُ تَحْتَ وطأتِه لغةُ الضاد من هولِ اللّحن الجَلّي دون الخفي- إلا بعد أن هدأت ثائرةُ الحربِ الهوجاء. لم نسمع له صوتاً حين قعقعةِ الرصاص، وزئير المدافع، وقهقهةِ الرّاجماتِ والمُسّيرات، جاءنا اليومَ مُحمّرّ العينين، مُنتفخ الأدواج مع ثلةٍ من مشجعيه بالهمزِ واللمز، والتعليقات واللايكات متجاوزين العِبرَ والعظاتِ المستفادةَ من هذه الحرب الشعواء التي أراد أن يصرفنا عنها، ويشغلنا عن تغطيتها بالطعن والتشكيك كعادته في كل المجموعات الإسفيرية التي اصبح الناسُ يجتنبون المشاركة فيها تفادياً لنقدّه الكثير، و شرّهِ المستطير، واللهُ المستعان.
ومما حدا بي لكتابةِ هذا العمود اليوم أيضاً، مهاتفةُ مَنْ أثق به تمام الثقة من الزملاء الأصدقاء الأوفياء الثقاة- على خلفية نشري موضوعاً عن الجوع ذي صلة باستعدادات البنك الزراعي- القضارف- لتمويل الجازولين بغرض زراعة ٢،٥ مليون فدان.
كشف لي صديقي العزيز وبحكم عمله، ومن واقع معرفته وصِلته الوثيقة بدقائق التفاصيل- الكثيرَ والمثيرَ عن نتائج الحرب وإفرازاتِها المتوقعة، وحجم الحالات التي توفيت نتيجةً للجوع والمرض وسوء التغذية في قلب أمدرمان والخرطوم بسبب هذه المواجهات الدامية التي أهلكت الحرث والنسل، ومن أبرزهم حالة المواطن (أ) الذي كان صديقي هذا- يقتسم معه اللقمة عبر تطبيقات التحويلات البنكية بشكل دوري حتى عجز عن الاستمرار في هذه العبادة التكافلية العظيمة المشهود له فيها بالتفاني والإخلاص.!!
ليتفاجأ بعد فترة انقطاع وجيزة بأن المواطن (أ) بلغ به الجوع، وانعدام الأكل والشرب مبلغاً عظيماً حتى أغلق بابَ بيتِه عليه فمات..!!
ومِن واقعِ مسئوليتي الإعلامية، وأمانةِ الكلمة والتبليغ – أناشد رئيس مجلسِ السيادة بضرورة تشكيل حكومة مؤقتة لتسيير دولاب الدولة، والاهتمام بمعاش الناس، وتوفيق أوضاعهم المتأزمة، أو إيجاد آلياتٍ متخصصة لهذا الأمر، بينما تتفرّغ المؤسسة العسكرية لمواصلة الكفاح في معركةِ الكرامة وصولاً للنصر المًبين، واستئصالِ شأفةِ المتمردين بإذن الله.
لك التحية والتقدير والاحترام أستاذ ضياء الدين الطيب وأنت تجاهد بالكلمة وتصدح بالحق في وقت أصبحت فيه الحقيقة عار والكذب مروءة، وسقط الحادبون على مصالحهم الشخصية في مستنقع التملق والخيانة.