الرئيسيةمقالات

ليلة التقاط فكرة “حسب الله”

كتب- عثمان ميرغني – خيال علمي ملهم… المعلم “حسب الله صادق كرافي”، الذي تقاعد قبل عشر سنوات بعد مسيرة طويلة في التعليم، يعيش حياة هادئة في قريته الصغيرة بولاية شمال كردفان. يقضي يومه بين الزراعة البسيطة وإدارة متجر صغير يكفي لتأمين معيشة أسرته. في المساء، يتصفح هاتفه المحمول، يتجول بين صفحات “الفيسبوك”، وأحيانًا يكتب خواطر عفوية على صفحته، قد تجذب بعض الإعجابات من زوار الوسائط الاجتماعية العابرين.

 

 

 

 

يوم الإثنين الماضي، فوجئ حسب الله برسالة عبر “الماسنجر” تحمل توقيع “مكتب وزير التربية والتعليم”. الرسالة تشكره على فكرته المبتكرة، وتبلغه أنها خضعت لدراسة دقيقة على مرحلتين: الأولى في لجنة فرز مبدئي، ثم رُفعت إلى إدارة تنفيذية عليا أكملت تقييمها، لتوضع أخيرًا على جدول أعمال الهيئة العليا بالوزارة، تمهيدًا لاعتمادها وتعميمها على مدارس السودان.

 

 

 

 

في البداية، ظن حسب الله أنها مزحة أو خدعة من أصدقائه على غرار “الكاميرا الخفية”. لكن شكوكه تبددت عندما اتصل بالرقم المرفق مع الرسالة، وتأكد أنها فعلاً من مكتب الوزير. فكرته، التي خطرت له في لحظة تأمل عابرة، تحولت إلى مشروع حي ينبض بالإمكانيات.

 

 

 

 

كان حسب الله قد كتب على صفحته في “الفيسبوك”: (الأطفال يتقافزون خلال حصة الفطور كالعصافير على أغصان الأشجار النضرة، يملأون المكان ضجيجًا بريئًا ينعش الحياة. أتسلى بمراقبتهم وهم يتبادلون الحديث. لاحظت أمرًا مدهشًا: مفرداتهم تتجاوز لغة الشارع العادية، تحمل الكثير من الكلمات الفصحى أو العبارات الدارجة الذكية التي تضفي على حديثهم عمقًا ودقة. إنها خليط من لغة البيت، والتلفاز، والوسائط، والمدرسة، وقصص الأطفال. لكنني أخشى أن يفقدوا هذه اللغة مع الزمن، لتحل محلها مفردات خشنة تعكس قاع المدينة أو أطراف القرية. لماذا لا تتبنى وزارة التربية معجمًا مدرسيًا يضعه خبراء متخصصون؟ معجم يرصد المفردات المتداولة، يعزز الجيد منها، يزيل الضعيف، ويضيف ما هو جميل ومثري. بالتأكيد، سينتج عن ذلك جيل رفيع الخطاب، وكلما ارتفع خطابه، ارتفع مقامه).

 

 

 

آلية “حصاد الأفكار”، التي أطلقتها الحكومة لجمع مقترحات وملاحظات الجمهور من الوسائط الاجتماعية، التقطت منشور حسب الله. سُجل تحت فئة “المقترحات”، وأُعطي رقمًا خاصًا، ثم رُفع إلى لجنة دراسة مبدئية، فنهائية، حتى وصل إلى مرحلة القرار في أعلى هيئات الوزارة.

 

 

 

شعر حسب الله بقيمة خبرته وكلماته، وأدرك أنه ليس مجرد مواطن يعيش على معاشه، بل عقل مبدع وشريك في صناعة القرار الوطني.

 

 

 

في اليوم التالي، كتب على صفحته(ظننت أن الحكومة لا تهتم بي، لكنني اكتشفت أنها تستمع إليّ وأنا في عمق الريف. إنها تقدّرني وتأخذ بفكرتي. أن تكون مواطنًا سودانيًا… فأنت حقًا (VIP).

 

 

 

هذه القصة الخيالية قصدت منها اقتراح آلية لـ “حصاد الأفكار”، أشبه بآليات “جصاد المياه” التي تجمع مياه الأمطار والسيول وتخزنها للاستفادة منها .

 

 

 

آلية “حصاد الأفكار” اقترحها مبادرة حكومية تهدف إلى تمكين المواطنين من المساهمة في صناعة القرار من خلال جمع أفكارهم، مقترحاتهم، ملاحظاتهم، وحتى شكاواهم عبر منصات التواصل الاجتماعي مثل “الفيسبوك”. تركز الآلية على استغلال الوسائط الاجتماعية كمنبع للإبداع والابتكار، مما يتيح للحكومة الاستفادة من خبرات وأفكار المواطنين، بغض النظر عن موقعهم الجغرافي أو خلفيتهم الاجتماعية.

 

 

 

 

تعتمد الآلية على عملية منهجية لضمان التعامل الفعّال مع الأفكار المقترحة، وتتضمن المراحل التالية:

الرصد والتجميع: باستخدام أدوات تقنية متقدمة (برمجيات تحليل البيانات و الذكاء الاصطناعي) لمراقبة منصات التواصل الاجتماعي وتتبع المنشورات التي تحتوي على مقترحات أو أفكار بناءة. في حالة حسب الله، رصدت الآلية منشوره على “الفيسبوك” الذي اقترح فيه إنشاء معجم مدرسي.

 

 

 

ثم التصنيف الأولي: يتم تسجيل كل فكرة أو مقترح تحت فئة محددة (مثل “مقترحات”، “شكاوى”، أو “ملاحظات”)، ويُمنح رقمًا متفردًا لتتبعه. هذا يضمن تنظيم الأفكار وتسهيل متابعتها لاحقًا.

 

 

 

 

ثم الدراسة المبدئية: تُحال الأفكار إلى لجنة فرز مبدئي تضم خبراء أو موظفين مختصين. هذه اللجنة تقيّم الفكرة بناءً على جدواها، أصالتها، وقابليتها للتطبيق. الأفكار الواعدة تُرفع إلى المرحلة التالية، بينما يتم أرشفة الأخرى.

 

 

 

ثم الدراسة التنفيذية: تنتقل الأفكار المختارة إلى إدارة تنفيذية عليا تضم مختصين في المجال المعني (في حالة حسب الله، وزارة التربية والتعليم). هنا، تُجرى دراسة معمقة لتقييم التكاليف، الفوائد، والتحديات المحتملة لتطبيق الفكرة.

 

وأخيرا اتخاذ القرار: تُعرض الأفكار التي اجتازت الدراسة التنفيذية على الهيئة العليا في الوزارة المعنية. يتم مناقشتها في اجتماعات رسمية، وإذا تمت الموافقة عليها، تُدرج في خطط العمل للتطبيق أو التعميم، كما حدث مع فكرة حسب الله التي وصلت إلى مرحلة التعميم على المدارس.

 

ولتعزيز الفكرة تكتمل بالتواصل مع المواطن بمجرد اختيار فكرته، يُبلغ بتقدم فكرته، مع توضيح الخطوات التالية. في حالة حسب الله، تلقى رسالة من مكتب وزير التربية والتعليم تشكره وتُعْلمه بدراسة فكرته.

من مزايا هذا المقترح أنه يجعل المواطن حتى في المناطق النائية، شريكًا في صناعة القرار وتُظهر الحكومة اهتمامها بأفكاره. مما يحفز الإبداع بتشجع المواطنين على مشاركة أفكارهم، و يعزز الابتكار الجماعي.

 

في حالة حسب الله، أدت الآلية إلى شعوره بالتقدير والانتماء، حيث أدرك أن صوته مسموع حتى وهو في قرية نائية. هذا يعزز الثقة بين المواطن والحكومة، ويحفز المزيد من المواطنين على المشاركة.

المصدر : صحيفة التيار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى